إلى رحمة الله

الشيخ نثار الحق السيوانيّ الندويّ رحمه اللّه تعالى

نحو1345-1428هـ = نحو1927 – 2007م

 

 

في الصباح الباكر من 9/12/1428هـ = 20/12/2007م يوم الخميس المصادف ليوم عرفة المبارك فاجأتِ المنيَّة الأخ الفاضل الشيخ نثار الحق السيواني الندويّ عن عمر يبذ الثمانين عامًا. وذلك في دارة الشيخ علم الله الحسني بقرية "تكيّة كلان" المجاورة لمدينة "رائي بريلي" بولاية "أترابراديش" وهي قرية سماحة الشيخ الصالح الداعية والمفكر الإسلامي الكبير السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي رحمه الله (1333-1420هـ =1914-1999م) . رحمه الله رحمةَ الأبرار الصالحين ورفع درجاته في الجنّة .

       كان الشيخ نثار الحقّ عالمًا مُحْتَرَمًا لدى القطاع العريض المُنْتَمِي إلى الأوساط العلميَّة والدينيَّة ؛ حيث كان رئيسَ كَتَبَة سماحة الشيخ الندويّ، وعاش لديه مُسْتَمْلىً نحو الخمسين عامًا كَتَبَ له ماشاء من الرسائل والمُؤَلَّفَات والأبحاث والمقالات. وكان يُحْسِن كتابةَ اللغتين: العربيّة والأرديّة، وكان لايسوء خطُّه فيهما مهما أَسْرَعَ في الكتابة . وكان الشيخ الندوي – رحمه الله – ربما كان يملي في غاية من السرعة والاستعجال، ولاسيّما عندما كانت تُعَاجِلُه الأشغالُ أو المناسباتُ أو تزدحم عليه الأفكارُ والمعاني التي كان يودّ أن تُقَيَّد على عِجْل مخافةَ الضياع أو التشوّش؛ فكنا نلاحظ أن جميع من يَمْثُلُون لديه للكتابة من الشباب ينزعجون عندما كان الشيخ يستعجلهم؛ فكانت أقلامهم لا تُطَاوِعهم؛ ولكن الشيخ نثار الحق كان وحدَه الذي يثبت في الساحة، ويتلقّف بقلمه كلَّ كلمة وفقرة كان يقذفهما إليه الشيخ الندويّ؛ فكان يظلّ مُنْتَبِهًا بسمعه وحواسّه؛ ومُسْتَعِدًّا للاصطياد بقلمه "شيفر" الذي كان مُحَبَّبًا إليه عَبْرَ السنوات العشر التي أمضيتها في دارالعلوم لندوة العلماء والتي عاشرتُه خلالها في دارة الشيخ علم الله الحسني أو في دارالعلوم لندوة العلماء أو في مقر جماعة الدعوة والتبليغ بـ"شارع كجهري" بمدينة لكهنؤ أو في بعض الأمكنة الأخرى التي كانت محطَّ رحل سماحة الشيخ الندويّ في الزيارات والإقامات.

       لم يكن الشيخ نثار الحقّ – رحمه الله – ممتازًا فقط بإحسان الخطّ في سرعة ؛ وإنما كان – إلى جانب ذلك – ممتازًا بصحّة الإملاء وكتابة كل لفظة من المفردات العربيّة حسبَ الصورة المُقَرَّرَة لدى علماء العربيّة؛ وإلاّ فإن كثيرًا من الكُتَّاب والمعروفين بكونهم مُتْقِنِين للغة العربيّة والأدب العربي هم كذلك قد يخطئون في الإملاء لدى التحرير ولايضبطون بعض الكلمات بالشكل الذي أَقَرَّه لها العلماء الثقات في الإملاء والقواعد .

       ولكون الشيخ مُنْقَطِعًا إلى خدمة الشيخ الندويّ الكتابيَّة والتأليفيَّة ، كان العلماءُ والمُثَقَّفُون في شبه القارة الهنديَّة كلما رأوا رسالةً أو كتابًا بخطّ يده عرفوا دونما تأمّل أن الرسالة أو الكتاب هو من قبل الشيخ الندويّ ؛ لأنّ خطّ الشيخ نثار بجماله الخاصّ ، وروعته الممتازة، وجودته وصياغته ، كان يتألّق من بعد، وكان له طابع برَّاق يدعو للقراءة والاستيعاب .

       في العقد السابع من القرن العشرين الميلادي ضُعَفَ بَصَرُ سماحة الشيخ الندويّ لكثرة ما عَكَفَ منذ صباه على القراءة والكتابة وأُجْرِيَتْ عمليّة جراحيّة في إحدى عينيه أكثر من مرة، حتى فقدها أخيرًا تمامًا، فبقيت الأخرى الوحيدة التي هي الأخرى كانت قد ضعفت كثيرًا؛ فاضطر أن لا يقرأ ويكتب بنفسه، وهنا أشار عليه الأطباء المختصّون بالقراءة والدراسة عن طريق بعض الأعوان وإملاء ما يريد إملاءَه عن طريقه من المقالات والمُؤَلَّفات أو تحرير أيّ شيء من الرقاع والرسائل؛ فبعد مشاورة مع ذويه وخلّص إخوانه انتدب لذلك الشيخَ نثارَ الحقّ – رحمه الله – الذي كان أيامئذ يمارس التدريس في الأقسام الابتدائيَّة والمتوسطة والثانويَّة بدارالعلوم لندوة العلماء. وأكدت الأيّامُ أن اختياره لهذا الغرض النبيل كان مُوَفَّقًا – ولله الحمد – فكان الشيخ نثار يلازم الشيخ الندوي ملازمةَ الظلّ في الحلّ والترحال، يكتب له ما يشاء وقت ما يشاء. وقد علمتُ عن تجربة أن سماحةَ الشيخ الندويّ كان ينبسط لدى إملائه عليه من المقالات والمؤلفات والخطابات مايشاء ، انبساطاً لايُتَاح له إذا كان المُسْتَمْلَى غيره لدى غيابه لغرض مُلِحّ أو مرض مُضْطَرّ ؛ لأنّه صار لطول المصاحبة وصفاء الحبّ وخالص الإعجاب بالشيخ الندويّ جزءًا من نفسه؛ فكان لايشعر الشيخ الندوي بوجوده بحاجز نفسيّ يعشر به كلُّ كاتب لدى التفكير الكتابيّ واستلهام المعاني واستيحاء الأفكار إذا حَضَر لديه أيُّ من الزائرين غير المتفاعلين ولو كانوا من ذوي قرباه أو من أبنائه؛ لأنّ كل وارد وطارئ من الناس في مثل هذا الوقت يكون غريبًا دَخيلاً بالنسبة إلى الكاتب أو المُؤَلِّف أو الشاعر.

       خلال هذه المسافة الزمانيّة الطويلة التي قضاها الشيخ نثار في صحبة سماحة الشيخ الندوي، لم يَتَلَقَّ الأفكارَ فقط، ولم يُسَجِّلِ المعانيَ، ولم يُقَيِّد الكلمات المُمْلاَة من قبله فحسب، وإنما تَشَرَّب كذلك الأخلاقَ الكريمةَ، والشيم الشريفة، والروحَ الدينيّةَ النبيلةَ، والقيم الإسلاميّة المثلى، والتحرق الصادق على حالة الأمة، والخصائص الأخرى الكثيرة التي كان يفيض بها شخصُ سماحة الشيخ الندويّ رحمه الله؛ فكان ينصبغ بها كلُّ من يجلس إليه ولو قليلاً، فما بالك بمثل الشيخ نثار الذي انقطع إليه هذه السنوات الطويلة ولازمه ليلَ نهارَ.

       إنّها لذكرى لذيذة تنبعث في ذاكراتى إذ وردتُ دارةَ الشيخ علم الله بـ"تكيَّة كلان" في أحد أيّام شهر مارس 1972م (صفر1392هـ) وقتَ الظهرَ وكان الشيخُ الندويُّ بمسجد القرية المتواضعة هذه، وكنتُ قد لاحقتُه من مدينة "لكهنؤ" حيث عاد منها إلى قريته، بالقطار الذي سبق قطاري بساعتين أو ثلاث ساعات فقط؛ فما إن نزلتُ بدار ضيافته؛ حتى علمتُ أنه قد أُذِّن للظهر وأن الشيخ تَوَجَّه للمسجد، فتركتُ عفشي القليل في إحدى جنبات القاعة المتوسطة بالمضيف، وتَوَجَّهْتُ توًّا للمسجد، ودخلتُ المسجدَ فوجدتُ الشيخ يصلى السنّةَ الراتبةَ والشيخ نثار جالس عن شماله والشيخ عبد الرزاق القائم بخدمة الشيخ العامّة ومدير مضيفه عن يمينه، فسلّمتُ على من بالمسجد ؛ فبَادَرَا إليَّ يستقبلانني ويؤنساني على عادتهما مع كل زائر للشيخ غريب. وكان أوّل لقيًا مع الشيخين نثار وعبدالرزاق . ثم طال مكثي لدى الشيخ في قصّة يطول ذكرُها، ويعذب تردادُها، ويجدر بالتسجيل؛ ولكنها لاتعنيني بهذه المناسبة.

       كلٌّ من الرجلين مَنَحنَاني من الحبّ والأنس الشيءَ الكثيرَ من معاني القرابة الذي لن أنساه ما دمتُ حيًّا ، والذي يجعلني أن أواصل لهما الدعاءَ، ولوجُعِلَتْ كلُّ شعرة في جسمى لسانًا، لوظّفتُه للدعاء لهما.

       وجدتُ في الشيخ نثار الحلمَ الذي لايَنْفَد، والصبر الذي لاينتهي، والتجمل ذا الرصيد الثرِّ، فقد كان الشيخ الندويّ ربّما ينزعج ويتضايق لدى الإملاء عليه عندما يجد قلمه لايطاوع الفقرات المتصلة المتسارعة الصادرة عن فمه. وذلك ربما كان يحدث لدى جفاف الحبر في قلمه من جراء طقس الحرارة في فصل الصيف ذى الرياح الغربيّة، أو لدى قلّة رصيده فيه؛ فكان يُوَجِّه إليه توبيخًا وزجرًا كالشيخ المربيّ الصالح الحاني على من يُعْنَى بتربيته تحت منهج خاصّ من الحكمة؛ ولكن الشيخ نثار كان لايستاء ولايتضايق.

       كان طلق الوجه، باسم الثغر، لايغضب حتى لدى دواعي الغضب . وكان لديه هواية للصيد؛ فكان قد اقتنى بندقيَّةً حَصَل على ترخيص لها بشكل رسميّ . وكان يخرج بها كثيرًا في الصباح الباكر ويصطاد من الطيور ما يسنح له، وربّما كان يخرج إلى المناطق البعيدة عندما يجد الفرصة مُتَاحَةً خلال رحلة الشيخ الندويّ إلى خارج الهند، ويمكث بها يومًا أو يومين و يقوم باصطياد بعض الحيوانات الوحشيّة المسموح باصطيادها من قبل الحكومة. وذلك مع بعض الإخوة ذوي المشاطرة في هوايته الاصطياديَّة .

       وكان يتعوّد بعضَ الأذكار والأدعية التي كان لايتركها مهما كانت الحال. وكان يحبّ تناولَ الكمثرى في الصباح الباكر ولاسيّما عندما كان يحين فصلُها في الشتاء وفي شهور الأمطار. وكان يجلبها ربما من خارج مناطق مديريّة "رائ بريلي" وكان يدعو الإخوان للتجمهر حولَ مأدبته من الكمثرى عند ما تكون ذات كميّة كبيرة. وكان دائم البحث عن أنواعها الجيّدة.

       وكان راغبًا كثيرًا في بعض أنواع الحلاوى ولاسيّما التي تُسَمَّى بالهندوسيّة "بيرا" (PERA) وكانت تُصْنَعُ بعضُ أنواعها الممتازة في مدينة "رائي بريلي". وكان خفيف الروح، يمارس المزاح الجميل الحلالَ، ويضاحك الإخوان المستأنسين في أوقات الفراغ، وكان يقرأ في مجالس الشيخ الندوي بعد صلاة العصر بعض الكتب الدينية التي يأمر بها الشيخ . وكانت قراءته واضحةً مُتَأَنِّية مُلْهِمَةً باعثةً على الفهم وإساغة المعاني التي تَتَضَمَّنُها العبارةُ. وكَسَبَ هذه المهارةَ بطول الممارسة، وكثرة القراءة على عين الشيخ الندويّ، وكان كثيرَ الإعراض عما لايعنيه؛ فكان معنيًّا جدًّا بالمهامّ الكتابيَّة والتسويديَّة والتبييضيّة المُسْنَدَة إليه؛ فما عُرِف لذلك اليوم الكمبيوتر والأجهزة الكتابيَّة السريعةُ؛ فكان الكُتَّاب والمُؤَلِّفون يعتمدون كلِّيًّا على الكتابة باليد والتبييض بها وحدها.

       كان رحمه الله من سكان مديريرة "سيوان" بولاية "بيهار" بالهند ومن مواليد نحو 1345هـ/1927م.

       يوم الجمعة : 22/ رمضان المبارك 1420هـ الموافق 31/ ديسمبر 1999م استأثرت رحمة الله تعالى بالعلم الهندي الكبير سماحة الشيخ السيّد أبي الحسن علي الحسني الندويّ رحمه الله رحمةً راسعةً ؛ فلم يغادر الشيخ نثار الحق الندويّ قريةَ شيخه الكبير ومُرَبِّيه العطوف ، وإنّما ظلّ يعكف على الدراسة وبعض الأعمال الكتابيّة في مكتبة الشيخ العامرة بالكتب النافعة في قريته تلك ، حتى وافاه الأجل المحتوم . رحمه الله وجزاه عن كل كلمة تلقّاها عن شيخه وكتبها له؛ فنفع بها الأمة ، وأفاد بها العامةَ والخاصّة، واستحقّ دعاءَه وأدعية العدد غير المُحْصَى من العلماء والصالحين، وغفر الله له جميع زلاّته التي لايخلو منها إنسان مهما كان.

       اللّهم أَعَلِ مقامَه في جنّة الفردوس مع الأنبياء والصديقين ، والشهداء والصالحين. وحسن أولئك رفيقًا.

(تحريرًا في الساعة 2 ظهرًا من يوم الجمعة : 26/8/1429هـ = 29/8/2008م)

 

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . ذو القعدة – ذوالحجة 1429هـ = نوفمبر–ديسمبر 2008م ، العـدد : 11-12 ، السنـة : 32